دراسات إسلامية 

 

الثقافة الإسلامية وأثرها في الحضارة

(1/4)

 

بقلم : الأستاذ محمود الشرقاوي

 

     كانت أوربا تتلقى آثار الثقافة العربية الإسلامية بوسائل وطرق كثيرة ومن أهمها وأعظمها أثرًا :

     1- طريق الأندلس ، حيث أقام العرب هناك جامعات زاهرة قصدها طلاب العلم من أوربا ، ونشر هؤلاء الطلاب في بلادهم ما تعلموه من العرب ، كما انتفع الأوربيون بدور الكتب الكثيرة التي كانت منتشرة في أسبانيا ، مما ساعد على إحياء العلوم في أوربا فيما بعد .

     2- طريق صقلية ، حيث ظل المسلمون في هذه البلاد زهاء 130 سنة ، فأصبحت المركز الثاني لنشر الثقافة الإسلامية في أوربا .

     3- طريق الشرق ، فقد كانت الحروب الصليبية 1099-1291م) والحج إلى بيت المقدس مدعاة لاختلاط الأوربيين بالعرب فنقلوا عنهم الكثير من علومهم ومعارفهم وفنونهم وصناعاتهم، كما حصلوا على كثير من الكتب العربية ، فساعد ذلك على ظهور روح البحث ، ودراسة علوم الأقدمين وآدابهم وفنونهم .

     وقد أكد علماء الغرب المنصفون أن الأوربيين تناولوا مشعل العلم من أيدى المسلمين حين اتصلوا بهم واطلعوا على حضارتهم ، فاستضاءوا بعد ظلمة، وبلغوا به بعد ذلك ما بلغوه من هذا التقدم العلمي العظيم الذي يعيشون فيه اليوم ، ولولا هذا الاطلاع وهذا الاحتكاك لظلت أوربا ، ربما لقرون عديدة أخرى تعيش في الظلام والجهالة التي رانت عليها في العصور الوسطى . وقد أجمل المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه «حضارة العرب» (1) تأثير حضارة الإسلام في الغرب وأرجع فضل حضارة أوربا الغربية إليها وقال: «إن تأثير هذه الحضارة بتعاليمها العلمية والأدبية والأخلاقية عظيم» ولا يتأتى للمرء معرفة التأثير العظيم الذي أثره العرب في الغرب الا إذا تصور حالة أوربا في الزمن الذي دخلت فيه الحضارة . وأضاف لوبون: بأن عهد الجهالة قد طال في أوربا العصور الوسطى وأن بعض العقول المستنيرة فيها لما شعرت بالحاجة إلى نفض الجهالة عنها ، طرقت أبواب العرب يستهدونهم ما يحتاجون إليه لأنهم كانوا وحدهم سادة العلم في ذلك العهد .

     ويقرر لوبون أن العلم دخل أوربا بواسطة الأندلس وصقلية وإيطاليا . وأنه في سنة 1120م أنشئت مدرسة للترجمة في طليلة بالأندلس بعناية «ريمولة» رئيس الأساقفة ، وأن هذه المدرسة أخذت تترجم إلى اللاتينية أشهر مؤلفات المسلمين ، ولم يقتصر هذا النقل على كتب الرازي وابن سينا وابن رشد فحسب بل نقلت اليها كتب اليونان التي كان العرب قدنقلوها إلى لسانهم ، ويضيف لوبون أن عدد ماترجم من كتب العرب إلى اللاتينية يزيد على ثلثمائة كتاب ويؤكد لوبون فضل العرب على الغرب في حفظ تراث اليونان القديم بقوله : «فإلى العرب ، وإلى العرب وحدهم ، لاإلي رهبان القرون الوسطى ممن كانوا يجهلون حتى وجود اللغة اليونانية ، يرجع الفضل في معرفة علوم الأقدمين ، والعالم مدين لهم على وجه الدهر لإنقاذهم هذا الكنز الثمين . وأن جامعات الغرب لم تعرف لها ، مدة خمسة قرون ، موردًا علميًا سوى مؤلفاتهم وأنهم هم الذين مدنوا أوربا مادة وعقلاً ، وأخلاقًا، وأن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير ، وأنه لم يفوقهم قوم في الإبداع الفني .

     وأكد لوبون أثر الاسلام وأثر حضارته في كل بلد استظلت برايته قائلاً : كان تأثير العرب في عامة الأقطار التي فتحوها عظيمًا جدًا في الحضارة ، ولعل فرنسا كانت أقل حظاً في ذلك ، فقد رأينا البلاد تتبدل صورتها حينما خفق علم الرسول الذي أظلها بأسرع مايمكن ، ازدهرت فيهاالعلوم والفنون والآداب والصناعة والزراعة أي ازدهار . وأشاد لوبون بفضل العرب في نشر العلوم وفتح الجامعات في البلاد التي استظلت برايتهم فيقول : ولم يقتصر العرب على ترقية العلوم بما اكتشفوه ، فالعرب قد نشروها ، كذلك بما أقاموا من الجامعات وما ألفوا من الكتب ، فكان لهم الأثر البالغ في أوربا من هذه الناحية ، ولقد كان العرب أساتذة للأمم المسيحية عدة قرون ، وأننا لم نطلع على علوم القدماء والرومان الابفضل العرب ، وأن التعليم في جامعاتنا لم يستغن عما نقل إلى لغاتنا من مؤلفات العرب(2).

     ويقول الفيلسوف الفرنسي «ارينيه جينو»  الذي أسلم وتسمى عبدالواحد يحيى : «والأثر الواضح الذى يثبت لنا انتقال المؤثرات الثقافية من المسلمين إلى أوربا هو تلك الكلمات العربية الأصل التي تستعمل لنقل الأفكار وإظهار ماتكنه النفوس فإن من السهل علينا أن نستنتج انتقال تلك الأفكار والآراء الإسلامية نفسها ، وفي الحق أن تأثير الحضارة الإسلامية قد تناول إلى درجة بعيدة وبشكل محسوس كل العلوم والفنون والفلسفة وغير ذلك ، وقد كانت أسبانيا مركز الوسط الهام الذي انتشرت منه تلك الحضارة . فالكيمياء احتفظت دائما باسمها العربي وعلم الفلك أكثر اصطلاحاته الخاصة ماتزال محتفظة في كل اللغات الأوربية بأصلها العربي ، كما أن كثيرا من النجوم مايزال علماء الفلك في كل الأمم يطلقون عليها أسماء عربية . ومن السهل جدًا ان نوضح أن كثيرًا من المعارف الجغرافية عرفت من الرحالة العرب الذين جابوا كثيرًا من  الأقطار وحملوا معهم معلومات جمة . وأننا لنجد أثر الثقافة الإسلامية في الرياضيات أكثر وضوحًا ، وهذا علم الحيوان الذي يسهل علينا من اسمه العربي أن نعرف طريق انتقاله إلى الغرب ، كما أن الأرقام الحسابية التي يستعملها الأوربيون هي نفس الأرقام التي استعملها العرب ، وأن كثيرًا من المعاني التي جادت بها قرائح الكتاب والشعراء المسلمين أخذت واستعملت في الأدب الغربي ، كما نلاحظ أن أثر الثقافة الإسلامية واضح كل الوضوح وبصفة خاصة في فن البناء وذلك في العصور الوسطى .

     ولم تكن هناك وسيلة لتعرف أوربا الفلسفة اليونانية الا عن طريق الثقافة الإسلامية لأن التراجم اللاتينية لافلاطون وأرسطو لم تنقل أو تترجم من الأصل اليوناني مباشرة وإنما أخذت من التراجم العربية وأضيف إليها ماكتبه المعاصرون المسلمون مثل ابن رشد وابن سينا في الفلسفة الإسلامية .

     ثم ينتهي رينيه جينو بقوله : هذا جزء من كل من أثر الثقافة الإسلامية في الغرب ولكن الغربيين لايريدون أن يقولوا به لأنهم لا يريدون الاعتراف بفضل الشرق عليهم، ولكن الزمن كفيل بإظهار الحقائق(3).

     كان تأثير الثقافة الإسلامية على أوربا تأثيرًا عميقًا في شتى نواحى الحياة وفيما يتصل بالمعارف والعلوم والفنون .

1 – في الأدب :

     قامت صلة وثيقة بين طائفة من عباقرة الشعر في أوربا بأسرها ، خلال القرن الرابع عشر الميلادي وما بعده ، وموضوعات الأدب العربي والثقافة الإسلامية على وجه لايقبل التشكيك . ونخص بالذكر من هؤلاء بوكاشيو وبترارك ودانتي وهم من أعلام النهضة الايطالية ، وشسر الكاتب الانجليزي الشهير ، وسرفانيتس الأسباني ، وإلى هؤلاء يرجع الأثر والتأثير البارز في قيام النهضة الأوربية في أوربا .

     ففي عام 1346م كتب بوكاشيو حكاياته التي سماها «الليالي العشرة» وحذا فيها حذو ليالي ألف ليلة وليلة التي كانت منتشرة حكاياتها في مصر والشام ، وقد ضمن حكاياته مائة حكاية على غرار ألف ليلة وليلة وأسندها إلى سبع من السيدات وثلاثة من الرجال الذين اعتزلوا في بعض ضواحي المدينة فرارا من مرض الطاعون . وفرضوا على كل منهم حكاية يقصها على أصحابه في كل صباح لقضاء وقت الفراغ وقتل الملل ، وقد ملأت هذه الحكايات أقطار أوربا واقتبس منها الكاتب الإنجليزي «وليم شكسبير» موضوع مسرحية «العبرة بالخواتيم» كذلك اقتبس منها «ليسينج» الألماني مسرحية «ناتان الحكيم». وكان شوسر إِمام الشعر الحديث في اللغة الإنجليزية من أكبر المقتبسين من بوكاشيو في زمانه ، لأنه التقى به حين زار إيطاليا ونظم بعد ذلك قصصه المشهورة باسم «قصص كانتربري» .

     وكانت صلة دانتي(4) بالثقافة الإسلامية وثيقة، لأنه أقام في صقلية في عهد الملك فردريك الثاني، الذي درس الثقافة الإسلامية في مصادرها العربية الأصيلة . وقد لاحظ أحد المستشرقين أن الشبه قريب جدًا بين وصف الجنة في كلام الصوفي الكبير محي الدين بن عربي (1164-1240م) في مؤلفه الكبير «الفتوحات المكية» وأوصاف دانتي لها في الكوميديا الالهية .

     وقد كان دانتي يعرف شيئا غير قليل من سيرة الرسول ، فاطلع على الأرجح من هذا الباب على قصة الإسراء والمعراج ومراتب السماء ، ولعله اطلع على رسالة الغفران لأبي العلاء المعرى ، واقتبس من كل هذه المصادر معلوماته عن العالم الآخر التي أوردها في الكوميدا الالهية وأكبر القائلين بالاقتباس على هذا النحو هو عالم من أمة الأسبان انقطع للدراسات العربية : وهو الأستاذ آسين بالسيوس(5) Asin Palacion .

     وقد عاش بترارك في عصر الثقافة الإسلامية بإيطاليا وفرنسا ، ودرس العلم بجامعتي مونبلييه وباريس بفرنسا وكلتاهما قامتا على تلاميذ علماء المسلمين في الجامعات الأندلسية .

     أما سرفانتيس فقد عاش في الجزائر بضع سنوات وألف كتابه «دون كيشوت» بأسلوب لا يشك من يقرأه في اطلاع كاتبه على العبارات العربية والأمثال التي لاتزال شائعة بين العرب حتى هذه الأيام . وقد جزم برسكوت Prescott صاحب الاطلاع الواسع على تاريخ الأسبان بأن فكاهة «دون كيشوت» كلها أندلسية في اللباب .

     أما عن الشعر ، فقد قال دانتى إِنّ الشعر الايطالي ولد في صقلية بفضل الشعر العربي وبتأثير منه ، ولقد شاع نظم الشعر بالعامية في إقليم بروفانس في جنوب فرنسا ، وانتشر الشعر في ذلك الإقليم على يد الشعراء الجوالين الذين عرفوا باسم «التروبادور» وواضح أن الأوربيين اشتقوا هذا الاسم من كلمة طروب العربية . وقد وجدت في أشعار الأوربيين بشمال الأندلس كلمات عربية وأشارات لعادات إسلامية .

     والشعر العربي الأندلسي في الموشحات والزجل كان السبب في نشأة الشعر الأسباني نفسه، والمرجح أن أول من ابتكر الموشح هو مقدم بن معافي القبري الضرير 992م وثلاثة آخرون أثروا هذا اللون من النظم «لسهولة تناوله وقرب طريقته» كما يقول ابن خلدون في مقدمته .

     والزجل يكون عادة باللغة الدارجة بينما يكون الموشح بالعربية الفصحى . وهذان اللونان من النظم من ابتكار أهل الأندلس وهما اللذان أثرًا في نشأة الشعر الأوربي ، وقد أثبت الباحثون انتقال بحور الشعر الأندلسي والموسيقي العربية إلى أوربا.

     وامتد التأثير العربي في نشأة الشعر الأوربي إلى بعض الموضوعات كالمغامرات ، وطريقة علاج هذه الموضوعات ، كما يتمثل هذا في فكرة الحب العذري التي تسود الغزل في الشعر البروفنسالي ، فإنه يرتد إلى الشعر الأندلسي ، وأزجال ابن قزمان، وقد عرض فكرة الحب العذري ، ابن حزم في كتابه «طوق الحمامة» .

     أما في مجال القصة الأوربية فنجد أن هذه القصة تأثرت في نشأتها بما كان عند العرب من فنون القصص في العصور الوسطى وهي : المقامات، وأخبار الفروسية ، وأمجاد الفرسان مغامراتهم لإحراز المجد أو في سبيل الحب .

     وترى طائفة من النقاد الأوربيين أن رحلات «جليفر» التي ألفها سويفت ، ورحلة «روبنسون كروزو» التي ألفها ديفوى ، تدين لقصص ألف ليلة وليلة ، ولرسالة حى بن يقضان التي ألفها الفيلسوف الأندلسي المسلم ابن الطفيل ، وقد وضح أنه كان لترجمة ألف ليلة وليلة إلى اللغات الأوربية أول القرن الثاني عشر أثر عظيم وبالغ الخطورة على الأدب الأوربي .

     ولم تنقطع الصلة بين الأدب الإسلامي والآداب الأوربية الحديثة حتى اليوم . ويكفي لبيان الأثر الذي أبقاه الأدب الإسلامي في آداب الأوربيين أننا لا نجد أديبا واحدا من نوابغ الأدباء عندهم قد خلا شعره أو نثره من الإشارة إلى بطل إسلامي ، أو نادرة إسلامية . ومن هؤلاء : شكسبير ، أديسون، بايرون ، سودى ، كولردج ، شيلي من أدباء الإنجليز، ومن أدباء الألمان ، جيته ، هرور، وليسنج، ومن أدباء فرنسا : فولتير، لافونتين . وقد صرح لافونتين باقتدائه في أساطيره التي ألفها بكتاب كليلة ودمنة الذي عرفه الأوربيون عن طريق المسلمين .

2 - في الفلسفة :

     كان أثر المسلمين في التفكير الفلسفي لأوربا عظيمًا ، وكانت أسبانيا هي مركز تأثير الفلسفة الإسلامية على الفكر الأوربي الغربي لأن أوربا لم تعرف فلاسفة الشرق إلا عن طريق الأندلس حيث أشرف ريموند أسقف طليطلة على ترجمة أعمال الفارابي وابن سينا والغزالي وغيرهم والعرب هم الذين حفظوا فلسفة كبار فلاسفة اليونان وعلى ما سطروه في كتبهم وبخاصة أرسطو وأوصلوا هذا التراث إلى الغرب . فاتصال العقلية الأوربية الغربية بالفكر العربي هو الذي دفعها لدراسة الفلسفية اليونانية .

     وقد قرر روجر بيكون أن معظم فلسفة أرسطو ظلت عديمة الأثر في الغرب لضياع المحفوظات التي حوت هذه الفلسفة أو لندرتها وصعوبة تذوقها حتى ظهر فلاسفة المسلمين الذين قاموا بنقل فلسفة أرسطو وشرحها وعرضها على الناس عرضًا شاملاً.

     ومن فلاسفة الأندلس الذين كان لهم أعمق الأثر في الفكر الأوربي ، ابن باجه ، وابن الطفيل، وابن رشد .

     ويعد ابن رشد الشارح الأعظم لفلسفة أرسطو، وكان أول من أدخل فلسفة ابن رشد إلى أوربا «ميخائيل سكوت» سنة 1230م . ولم يأت منتصف القرن الثالث عشر حتى كانت جميع كتب هذا الفيلسوف قد ترجمت إلى اللاتينية . ولم ينتصف القرن الخامس عشر حتى صار ابن رشد صاحب السلطان المطلق في كلية بارو بإيطاليا والمعلم الأكبر دون منازع(6).

     ويبدو أثر ابن رشد واضحًا في خروج كثير من الغربيين على تعاليم الكنيسة وتمسكهم بمبدأ الفكر الحر وتحكيم العقل على أساس المشاهدة والتجربة . وقد ظهر أثر آراء ابن رشد واضحًا في فلسفة القديس توما الأكويني (1125-1274م) حتى أن الفصول التي كتبها توما في العقل والعقيدة وعجز العقل عن إدراك الأسرار الإلهية ليست إلا مقابلاً لما كتبه ابن رشد في باب «فضل المقال فيما بين الحكمة والشريعة ومن الاتصال» وبلغ تأثر توما بفلسفة ابن رشد أن كتاب «الخلاصة» لتوما يحوي بعض مذاهب إسلامية الأصل ، مما يثبت أن الأثر الذي تركه ابن رشد في عقلية الغرب لم يكن مجرد لشروح كتابات أرسطو وإنما كان أبعد وأعمق من ذلك بكثير(7) .

     ويعد الفيلسوف الألماني المعاصر كانت Kant من أكبر تلاميذ ابن رشد يقول جوستاف لوبون عن ابن رشد إِنه : كان الحجة البالغة للفلسفة في جامعاتنا منذ أوائل القرن الثالث عشر من الميلاد، لما حاول لويس الحادي عشر تنظيم أمور التعليم في سنة 1473م أمر بتدريس مذهب هذا الفيلسوف العربي ومذهب أرسطو(8) .

          وكان للفيلسوف الصوفي محي الدين بن عربي (560هـ / 1164م – 638هـ / 1240م) أثر كبير في عقول النساك والمتصوفة من فقهاء المسيحية الذين ظهروا بعده .

     يرى الأستاذ آسين بلاسيوس الأسباني أن نزعات دانتى الصوفية وأوصافه لعالم الغيب مستمدة من محي الدين بن عربي بغير تصرف كثير .

     ومن المعلوم أن أول الفلاسفة الصوفيين من الغربيين هو جوهان أكهارت الألماني فقد نشأ في القرن التالي لعصر ابن عربي ودرس في جامعة باريس، وهي الجامعة التي كانت تعتمد على الثقافة الأندلسية في الحكمة والعلوم ، وأكهارت يقول كما يقول ابن عربي ، إِن الله هو الوجود الحق ولا موجود سواه ، وأن الحقيقة الإلهية تتجلى في جميع الأشياء ولا سيما روح الإنسان التي مصيرها إلى الاتصال بالله من طريق الرياضة والمعرفة والتسبيح ، وأن صلة الروح بالله ألزم من صلة المادة بالصورة ، والأجزاء بالكل ، والأعضاء بالأجسام(9).

     وقد اقتبس الفيلسوف المتصوف الأسباني – رايموندلول – من ابن عربي خاصة في كتابه «أسماء الله الحسنى» لأنه كان يحسن العربية ، وعاش بعد ابن عربي بقرن واحد ، وجعل أسماء الله مئة ، وهي لم تعرف بهذا العــدد في الديانـــــة المسيحية قبل ذاك .

3 - في الطب :

     جاء الإسلام فقضى على الكهانة وفتح الباب للطب الطبيعي على مصراعيه لأنه أبطل المداواة بالسحر والشعوذة ولم يحدث في مكان الكهانة طبقة جديـدة تتولى العلاج باسم الدين ، بل سمح للنبي - عليه الصلاة والسلام - باستشارة الأطباء ولو من غير المسلمين فلما مرض سعد بن أبي وقاص في حجة الوداع عاده النبي وقال له : «إِني لأرجو أن يشفيك الله حتى يضر بك قوم وينتفع بك آخرون»، ثم قال للحارث بن كلدة : «عالج سعدًا مما به» والحارث على غير دين الإسلام . وذكر القرآن الكريم لقمان الحكيم ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلّه﴾ ومنها التطبيب أو هي الطب قبل سائر ضروب الحكمة ، فجعل الإسلام هذه الصناعة نعمة يشكرها من أسبغها الله عليه ، واتخذها وظيفة معترفاً بها .

     كان الطب العربي الإسلامي يستهدف حفظ الصحة على الأصحاء – وهذا هو الجانب الوقائي الذي نسميه الآن بعلم الصحة ، وقد توصّلوا إلى الوقاية من الأمراض بدراسة الجسم ووظائف أعضائه ، وحاولوا الكشف عن أسباب الأمراض وطرق انتشارها ، لمعرفة أساليب الوقاية منها ، كما يستهدف الطب الإسلامي رد الصحة إلى المرضى، وهذا هو شفاء الأمراض .

     وقد تشعب الطب العربي الإسلامي في العصور الوسطى فروعًا تخصص في كل منها فريق من الأطباء يقول ابن قيم الجوزية (ت 751هـ - 1350م) : الطبيب هو الذي يختص باسم الطبائعي، وبمروده (وهو الكحال أي طبيب العيون) وبمبضعه وهو الجرائحي (أى الجراح) وبموسه وهو الخاتن ، وبمحاجمه وشرطه وهو الحجام ، وبخلعه ووصله ورباطه وهو المجبر، وبمكواته وهو الكواء ، وبقربته وهو الحاقن ، وسواء كان طبه لحيوان بهيم – بيطري ، أو إنسان فاسم الطبيب يطلق على هؤلاء جميعًا . بل إِنهم عرفوا التخصص في طب الأسنان وأمراض التوليد والنساء والأطفال ، والعيون – بل حتى طب الأمراض النفسية والعصبية . وقد التزم الأطباء بميثاق أخلاقي يعود إلى أبقراط 370 ق. م. بل تنحدر بعض تعاليمه إلى مصر القديمة . وقد أوجب الخليفة المقتدر عام 319هـ / 931م على من يزاول مهنة الطب أن يجتاز امتحاناً يرخص له بمزاولة المهنة ، وتقدم للامتحان في بغداد وحدها نحو تسعمائة طبيب ، غير مشاهير الأطباء والصيادلة يخضعون للرقابة وفقًا لنظام الحسبة في الإسلام .

     وكان هذا وغيره في الإسلام في وقت حرمت فيه الكنيسة في أوربا صناعة الطب ، لأن المرض عقاب من الله لا يجب علاجه أو منعه ورده ، وظل الطب محرمًا في أوربا حتى عصر الإيمان في مستهل القرن الثاني عشر أبان الحضارة الأندلسية .

     وقد عرفت في طب العرب موسوعات طبية إسلامية ترجمت كلها إِلى اللاتينية اطلع عليها أطباء أوربا ونهلوا من معينها حتى مطلع العصور الحديثة، كان في مقدمتها كتاب القانون لابن سينا في القرن الثاني عشر. وقد جمع خلاصة الطب عند العرب واليونان والسريان والأقباط ، وضم ملاحظات جديدة عن الالتهاب الرئوي وعدوى السل . مع وصف لسبعمائة وستين دواء . وقد ترجمه جيرار الكريموني إلى اللاتينية وطبع عشرات المرات .

     كما ترجم الحاوي للرازي (ت 320هـ/ 926م) وهو أكبر من القانون وأوسع مادة وموضوعًا ، وقد أكمله تلاميذ الرازي بعد موته ، وترجم إلى اللاتينية في عام 1486م . وفيه آراء جديدة عن الفتق والحجامة والحميات وأعصاب منطقة الحنجرة وعضلاتها ، وله كتاب المنصوري الذي ترجم عام 1481م ورسالة عن الجدري(10) والحصبة بوصف وتشخيص آية في الدقة لأول مرة.

     ولعل الرازي كان أول واضع لعلم الطب التجريبي ، فقد كان يجري تجاربه على الحيوانات ، فيجرع القردة الزئبق ، ويختبر تأثير الأدوية على الحيوانات ويسجل عليها العمل اليوم ، فكان يدع مريضه يسرد قصته على سجيته ، ثم يسأله عن أحواله الحاضرة مفصلاً ، ثم عن سوابقه الشخصية والأرثية ، ويدون جميع ذلك في سجل خاص ، ويحفظه للرجوع إليه ، كلما لزم ذلك .

     وكان الكتاب الملكي في الطب لعلي بن عباس (ت 384هـ / 994م) شائعًا عند الأوربيين لستة قرون من الزمان(11)، كما كان خلف بن قاسم الزهراوي (ت414هـ/1013م) معروفاً عند الأوربيين بكتابه : «التصريف لمن عجز عن التأليف» بأجزائه الثلاثة . وقد أفرد القسم الأخير منها للجراحة ، وفيه أشار إلى أهمية التشريح للجراح ، ووصف كثيرًا من الجراحات باسهاب ، وأجرى جراحات في شق القصبة الهوائية وتفتيت الحصارة في المثانة وخاصة عند النساء عن طريق المهبل . وسبق إلى استخدام ربط الشرايين ، ووصف استعداد بعض الأجسام للنزيف وعلاجه بالكى ، وقد زود كتابه برسوم للآلات الجراحية . وقد ترجمه إلى اللاتينية جيرار الكريموني وطبع في أوربا عشرات المرات ، وكان مرجعًا في جامعات سالرنو ومونيليه وغيرهما .

     وفطن العرب إلى أمراض النساء والولادة ، وحسبنا أن نشير إلى ما كتبه أمثال علي بن عباس في توليد الجنين الميت ، والأدوية المانعة للحمل ، أو النصائح التي تتعين مراعاتها عند التوليد .

     أما في علم الرمد فإن حنين بن اسحق = 877م كان أول من طبع العربية بطابع الأسلوب العلمي ، وكان كتابه «العشر المقالات في العين» أو كتاب موجود اصطنع في طب العيون منهجًا علميًا، وزود برسوم شيقة ، وهي أول وأدق رسوم عرفت في تشريح العين كما يقول ناشر الكتاب بالقاهرة ماكس ما يرهوف – ويقول مؤرخ الطب العربي أدور براون : إن يوحنا بن ماسوية+ 827م قد وضع كتابه «دغل العين» فكان أول كتاب عربي في علم الرمد وأقدم ما وضع في طب العيون في مختلف اللغات القديمة .

     وكان الأطباء العرب في القرن العاشر، يعلمون تشريح الجثث في قاعات مدرجة خصصت لذلك في جامعة صقلية . واكتشف ابن النفيس الدمشقي المصري الدورة الدموية الصغرى ، ونقلها عنه «هارفن» الإنجليزي وعزاها لنفسه ومثل ذلك فعل «سرفينوس» الإيطالي ، ويدعم ذلك ما قاله المؤرخ المعاصر «مايرهوف» : «إن ما أذهلني حقًا، مماثلة الجمل الأساسية في أقوال هذين الطبيبين لما كتبه ابن النفيس وكأنها ترجمت ترجمة حرفية» ، ويؤيد ذلك ايضًا العالم «الدوميالي» في كتابه عن علوم العرب، كما يؤيده الأستاذ الدكتور ليون بينه Leon Binet أستاذ الفسيولوجيا بباريس .

*  *  *

الهوامش :

(1)          جوستاف لوبون : حضارة العرب ص 26، 568 .

(2)          جوستاف لوبون : حضارة العرب ، ص 26، 66 ، 569.

(3)          الفيلسوف رينيه جينو أو عبد الواحد يحيى للدكتور عبد الحليم محمود ، ص 50 – 60 .

(4)          هو دانتى البجيري (1265-1321م) وهو من مفاخر عصر النهضة ، وهو صاحب الكوميديا الالهية ، وقد قام بترجمتها إلى اللغة العربية الدكتور حسن عثمان .

(5)          انظر أيضًا : عبد الرحمن بدوي : دور العرب في تكوين الفكر الأوربي . بيروت 1965، ص 63-84 .

(6)          جوده هلال ومحمد صبح : قرطبة في التاريخ الإسلامي ، ص104-105 .

(7)          سعيد عاشور : فضل العرب على الحضارة الأوربية . القاهرة 1957 ، ص 36 .

(8)          دوستاف لوبون : حضارة العرب ، ص 569 .

(9)          عباس محمود العقاد : أثر العرب في الحضارة الأوربية . القاهرة 1963 ، ص 98-99 .

(10)      لاروس القرن العشرين : انظر الرازي .

(11)      سيديو : تاريخ العرب العام 2/77 .

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1426هـ = أبريل – يونيو 2005م ، العـدد : 4–3 ، السنـة : 29.